إشراقة 

الذي يَدَعُ طريقك في الحياة مفتوحًا أكبرُ محسن إليك

 

 

 

 

 

       إذا أَلَمَّتْ بأحد ملمةٌ قاسية أو حَدَثَ له حادثٌ كبيرٌ مُقْلِق مُؤَزِّم، أو اعترض طريقَ حياته صخرة تستنفد إزالتُها كثيرًا من الجهد والوقت والقوة ، الأمر الذي لا يكاد يحتمله هو، ينهض كثيرٌ من الناس الأقربين والأبعدين – على السواء – ليواسوه ، ويُؤَكِّدُوا له مشاطرةَ الهمّ ، وتقديمَ كل مساعدة ماديّة ومعنويّة لمواجهة المشكلة . وهنا يَحْسَبُ المهمومُ أنّ معالجةَ المشكلة جدُّ يسير عليه بفضل وقوف هذا العدد الكبير من المواسين والمساعدين بجانبه، ويعتقد – لما يراه من حماسهم وصدق ما يبدو من تعاملهم – أنهم قد يدومون على التعاون معه على مواجهة الخطب ومشاطرة الهمّ ، وأن الرياحَ ستظلّ تجري بما تشتهيه سفينتُه؛ فالمصائب ستتلاشى، والخطوب ستظلّ تذوب، والتغلّبُ على مرارة الحياة سيظلّ هَيِّنًا .

       غير أن حماسَ المواسين والمساعدين يتراجع مع الأيّام – حسب سنّة الله في الكون – ويعود المهموم وحيدًا ليصارع الهمومَ ويواجه المشكلة، أو قد يبقى معه صامدًا لبعض الوقت بعضُ خُلَّص الإخوان من عشيرته أو فصيلته، أو ممن تعلّقوا به بصداقة صافية. ثم يأتي اليومُ الذي لايكون معه في الواقع إلاّ نفسُه، ولايساعده في مواجهة المصيبة إلاّ نصرُ الله وتوفيقُه اللذان لايخونان المهمومَ المحزونَ مهما خان الخلاّنُ وانفضّ الإخوانُ. وخلال ذلك قد يكون وَجَدَ حيلةً بفضل الله ورحمته لحلّ المشكلة، والتغلّب على الأزمة، والتخلّص من الورطة.

*  *  *

       قصّةٌ من واقع حياة رجل أُثـْبـِتُها لتكون مصدرَ درس لمن يتلقّاه من القراء المُوَفَّقِين: استوفى والده ظمأَ حياته وهو ابن ثلاثة شهور في حضن والدته المسكينة، ومَضَتْ أيّامُ حياته عصيبةً كما شاء الله عزّ وجلّ.  ومرَّ بمراحل الكتاب ومبادئ القراءة والكتابة. وانتسب في المرحلة الابتدائية إلى المدرسة الإمدادية بمدينة «دربنجه» بولاية «بيهار» بالهند، وكان والده الثاني (زوج أُمّه) – وكان ابن عمّ لأمّه – حيًّا ينحت له وللعائلة طريقَ الحياة من صخر؛ حيث كان لاينال إلاّ راتبًا ضئيلاً لايغطّي حاجات العائلة. وذلك من خلال عمله في بعض المصانع بمدينة «كالكوتا» الهنديّة ثم من خلال دكّان له صغير يبيع فيه بعضَ أنواع الحبوب. بعد أعوام التحق بدارالعلوم بمدينة «مئو» بأترابراديش، وغادرها بعد أعوام إلى الجامعة الإسلامية الأمّ: دارالعلوم بمدينة «ديوبند» وكانت السنة الأولى من الدراسة بدارالعلوم/ ديوبند إذ مات والــده الثاني – رحمــه الله – فصحّت عزيمــةُ والـدتـــه على فصلي من التعليم لأنّها عَدِمَتْ من يعولها ويعولني ويعول ثلاثةَ أولاد (ابنين وبنتًا) غيري، ووَجَدَتْ طريقَ الحياة مسدودةً في وجهها. وقد أَيَّدَتْ رأيَها في فصلي من الدراسة لأُصْرَفَ إلى كسب لقمة العيش خالاتي الثلاث اللاتي حَزِنَّ على موت والدي الثاني حزنَ والدتي التي كانت أصغر شقيقاتها .

على فصله من التعليم لأنّها عَدِمَتْ من يعولها ويعوله ويعول ثلاثةَ أولاد (ابنين وبنتًا) غيره، ووَجَدَتْ طريقَ الحياة مسدودةً في وجهها. وقد أَيَّدَتْ رأيَها في فصله من الدراسة لِيُصْرَفَ إلى كسب لقمة العيش خالاته الثلاث اللاتي حَزِنَّ على موت والده الثاني حزنَ والدته التي كانت أصغر شقيقاتها .

       ولكنّ زوجَ خالته الكبرى – الذي كان من سكان «رائبور» بمديرية «سيتامرهي» بولاية «بيهار» بالهند – رَفَضَ هذا الرأيَ بشدة وقال: لا، لن يكون ذلك وأنا حيّ؛ فقد سمعتُ على لسان كل زميل من زملاء هذا الولد في الدراسة، أنه أذكى من الأقران جميعًا وأنه يَبُذُّهم في الاجتهاد والحرص على تكوين الذات وكسب المؤهلات الدراسية، وأنّه ينال في الامتحانات دائمًا علاماتٍ ممتازةً لاينالها أيٌّ من زلائه؛ فليستمرّ في الدراسة وأنا كفيل بمصروفاته الدراسيّة وغير الدراسيّة. هنا ظنَّتْ والدته وظنّ هو كذلك أن هذا «السند القويّ» قد قام للفترة المطلوبة كلّها، وأنّ قضيةَ دراسته قد وَجَدتِ الحلّ الكافيَ، وهي أكبر قضيّة بين القضايا التي مَثَلَتْ أمامه إثرَ وفاة الوالد الثاني.

       غير أنّه – رحمه الله – لم يتمكن من تقديم المساعدة له إلاّ مرة أو مرتين على الأكثر؛ لأن أيّام الإنسان لاتبقى على نسق واحد، والأوضاع لاتدوم على وتيرة واحدة؛ ولكن الأهم أنه – رحمه الله – فتح الطريق الذي يكاد ينسّد، ولن يُتِحْ لمجرى الحياة أن يتغيّر لجهة سلبيّة خاطئة، ولم يسمح لليأس أن يخيّم على درب اليتيم؛ فظل يعدو في طريق الدراسة، وأكمل المشوار، وعاد يخطّ حروفًا، ويُدَرِّس كلمات، ويستغل بوظائف العلم والتدريس والتأليف ما ينفعه وينفع العائلة كلها. وكلُّ ذلك يرجع فيه الفضلُ بعد الله عزّ وجلّ إلى زوج خالته المذكور – رحمه الله – فهو وأعماله صدقةٌ جاريةٌ له، جزاه الله خيرًا وأكرم مثواه في جنة الفردوس .

*  *  *

       إنّ الذي يَدَعُ طريقك في الحياة مفتوحًا ويعمل على إزالة كل مترس يعترضه، ويجعلك سائرًا عليه دونما توقّف، ويعينك على الاستمرار في إغذاذ الخطى إلى المنزل المنشود، والمستقبل الزاهر، والغد المشرق، أكبرُ مُحْسِن إليك وأكرمُ مُنْعِم عليك، يجب أن تعرف منّته عبر امتداد الحياة بك وتطاول فرصة العمر لك؛ لأنّ جميع ما تحقّقه اليوم من المكاسب يرجع فيه الفضل إلى هذا المنعم الذي تَحَمَّلَ أعباءَ إبقاء طريقك في الحياة مفتوحًا وكاد ينسدّ بالركامات والعوائق التي زَرَعَتْها فيه صروفُ الدهر وخطوبُ الأيّام والليالي.

       قد يجوز أن تجعل الظروفُ المستجدةُ ذلك المنعمَ يَنْفُضُ يدَه من التعاون معك في الأيام التالية، وتجعله لايبقى على العطف والحماس اللذين لمستَهما منه في بداية المشوار؛ لأن حلاوة الأيام وملاءمة الظروف لاتدومان، ولم يُكْتَبُ للربيع الدوامُ، والبقاءُ لله وحده؛ ولكن قيمةَ منّته لاتقلّ؛ حيث الدفعةُ الأولى، والحركةُ الأوّليّة، والتشجيعُ المُبَكِّر، لها قيمتُها الكبيرة، وأهميّتُها البالغة؛ لولاها لم تستمرّ الخطى، ولم تدم الرحلة إلى تحقيق الهدف، وإحراز النصر، الذي أعلى شأنَك ورفع مكانَك اليوم في المجتمع، وجعلك شامًّا بين المعاصرين.

       محاولةُ أن لاينسّد الطريق ولا تتوقف الرحلة، محاولةٌ مُشَرِّفَةٌ للغاية، لايعرف أهميّتَها إلاّ من مُنِيَ بقطع الرحلة والتساقط في الطريق والتراجع عنه؛ لأنه قد وَجَدَه مسدودًا بصخرة لاتُزَالُ . إن هذه المحاولة هي وحدها التي أحياك بعد ما كدتَ تموت، وأظهرك بعدما كدت يخمل ذكرُك ويُجْهَلُ شخصُك ويُطْوَىٰ بساطُك، فتظلّ مَيِّتًا وأنت حيّ؛ فالأعمال التي قمتَ بها، والإنجازاتُ التي حَقَّقْتَها، والمفاخر التي شَيَّدَتَها، والصيت المطبق الذي كَسَبْتَه، والحسنات التي وُفِّقْتَ لها، والانتصارات التي أحرزتَها، والهزائم التي تَجَنَّبْتَها، ومواقف الشقاء التي تَنَكَّبْتَها.. كُلُّها وغيرها إنما نتجت عن هذه المحاولة الكريمة. لقد كان بالإمكان أن لايُسَجِّلَ لك التأريخ ماسَجَّلَه لك من المكانة المرموقة والمواقف الخالدة من المناقب والمفاخر، لولا هذه المحاولة التي كانت كالعصا السحريّة وحجر الفلاسفة في حياتك.

       إنّ قميةَ الحسنة لاتُقَدَّر بطولها وعرضها الظاهرين، وإنّما تُقَدَّر بنتائجها الكبيرة وانعكاساتها العظيمة. إنّ ذرّةً من الحسنة بآثارها الواسعة ومفعولاتها الكثيرة، تفوق الأعمالَ العاديةَ التي تضخم في الظاهر وتضؤل في الباطن.

       إنّ من حَفَرَ لك بئرًا تشرب منها، وبنى لك بيتًا تلجأ إليه، ومَهَّدَ لك أرضًا تُغِلُّ لك المحصولات، وشَقَّ لك طريقًا تسير عليه، وهَيَّأَ لك مركبًا تستعمله لغدواتك وروحاتك، وأوجد لك مصدرًا للرزق، وموردًا للدخل، وآلة لتوفير وسائل الحياة، كان أكبر محسن إليك لن تجهل إحسانَه أبدَ الدهر إذا تعرف للإحسان قيمة، وللجميل وجهًا،و للمعروف معنى. ولستَ كالأحمق الذي يعترض على حافر البئر، أنه لم يُوَفِّر له الدلوَ والرِّشَاءَ، وعلى باني البيت أنّه لم يُؤَثِّثه بالحوائج، وعلى واهب الأرض أنه لم يهب له المحراث ومستلزماته، وعلى شاقّ الطريق أنه لم يُبَلِّطه، وعلى المتكرم بالمركب أنه لم يزيّنه، وعلى موجد مصدر الرزق أنه لم يوفّر له ما يستعمله لاستدرار الرزق وكسب الدخل وجلب وسائل الحياة.

       العاقل من المُنْعَم عليه إنّما يشكر المُنْعِمَ على عمله المبدئيّ الأصلى، ولا يطلب منه الفروع التي تحصيلُها هيّن، والاستغناءُ عنها ممكن، لمن يتوكأ على الأصل، ويعرف إدارته، ولايتشاغل بالفرعيّات تشاغلَه بالأصليّات .

       من أَخَذَ بيدك من السقوط في البئر أو الهاوية، كان أكبر محسن إليك لأن حياتك الباقية وماصنعتَه بعد فيها من الخير، إنما هما متفرعان من بقاء حياتك. فإذا قلتَ: إنه جَعَلَ الإحسانَ غيرَ ربيب؛ حيث لم يأخذ بيدي في جميع مواقف الحياة ، فأنت مُتَنَكِّرٌ للجميل وجازٍ المحسنَ بالإساءة. إنّ الآخذ بيدك منعك من نهاية حياتك، وبقاء حياتك هو الذي تَفَرَّعَ منه جميعُ ما حَصَّلْتَه من العلم، وكسبتَه من الفضل، وتمتعتَ به من الشهرة، وحُزْتَه من العزّ والفخار،وحقّقتَه من الدنيا الواسعة، وحفرته في جبين التأريخ من آثار الإبداع والابتكار ، ونتاج الفكر والعمل .

       المُشَجِّعُ الأوّل الذي يُبْقِي على مجرى النهر، ويجعل تيارَ المياه يتدفّق على وتيرة سابقة، ولايدعه يعترضه فتورٌ، ويسابقه عائق، رجلٌ كبيرٌ ذو همةٍ عاليةٍ وطموحٍ جديرٍ بالتسجيل والإشادة. أمّا من تلاه ليلوك فقط كلماتِ الثناء، ويطلق ألفاظ التشجيع مجردة من العمل، فإن غوثه أمطر بعد ما فات الوقت ومضى الحين . ومنفعةُ الغوث إنما تكون إذا جاء قبل العطب .

       فالشكر الجزيل والدعاء الكبير لمن يبكّر للغوث، ويبادر للعون ويحاول جهده أن لايتوقف تدفّقُ النبع، والمرورُ في الطريق، والسيرُ في درب الحياة .

 

(تحريرًا في الساعة 11 من صباح الثلاثاء:يوم السبتاللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة. ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه 17/ربيع الثاني 1427هـ = 16/مايو2006م)

أبو أسامة نور

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1427هـ = يونيو 2006م ، العـدد : 5 ، السنـة : 30.